فصل: النوع الرابع في الالتفات

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر **


  النوع الثالث في التجريد

وهذا اسم كنت سمعته فقال القائل‏:‏ التجريد في الكلام حسن ثم سكت فسألته عن حقيقته فقال‏:‏ كذا سمعت ولم يزد شيئاً فأنعمت حينئذ نظري في هذا النوع من الكلام فألقي في روعي أنه ينبغي أن يكون كذا وكذا وكان الذي وقع لي صواباً ثم مضى على ذلك برهة من الزمان ووصل إلى ما ذكره أبو علي الفارسي رحمه الله تعالى وقد أوردته ههنا وذكرت ما أتيت به من ذات خاطري من زيادة لم يذكرها وستقف أيها المتأمل على كلامه وكلامي‏.‏

فأما حد التجريد فإنه إخلاص الخطاب لغيرك وأنت تريد به نفسك لا المخاطب نفسه لأن أصله في وضع اللغة من جردت السيف إذا نزعته من غمده وجردت فلاناً إذا نزعت ثيابه ومن ههنا قال ‏)‏‏"‏ لا مدٌ ولا تجريد ‏"‏ وذلك في النهي عند إقامة الحد أن يمد صاحبه على الأرض وقد تأملته فوجدت له فائدتين‏:‏ إحداهما أبلغ من الأخرى‏:‏ فالأولى طلب التوسع في الكلام فإنه إذا كان ظاهره خطاباً لغيرك وباطنه خطاباً لنفسك فإن ذلك من باب التوسع وأظن أنه شيء اختصت به اللغة العربية دون غيرها من اللغات‏.‏

والفائدة الثانية‏:‏ وهي الأبلغ وذاك أنه يتمكن المخاطب من إجراء الأوصاف المقصودة من مدح أو غيره على نفسه إذ يكون مخاطباً بها غيره ليكون أعذر وأبرأ من العهدة فيما يقوله غير محجور عليه‏.‏

وعلى هذا فإن التجريد ينقسم قسمين‏:‏ أحدهما‏:‏ تجريد محض والآخر‏:‏ تجريد غير محض‏.‏

فالأول‏:‏ وهو المحض أن تأتي بكلام هو خطاب لغيرك وأنت تريد به نفسك وذلك كقول بعض المتأخرين وهو الشاعر المعروف بالحيص بيص في مطلع قصيدة له‏:‏ إلام يراك المجد في زي شاعر وقد نحلت شوقاً فروع المنابر كتمت بعيب الشعر حلماً وحكمة ببعضهما ينقاد صعب المفاخر أما وأبيك الخير إنك فارس ال - مقال ومحيي الدراسات الغوابر وإنك أعييت المسامع والنهى بقولك عما في بطون الدفاتر فهذا من محاسن التجريد ألا ترى أنه أجرى الخطاب إلى غيره وهو يريد نفسه كي يتمكن من ذكر ما ذكره من الصفات الفائقة وعد ما عده من الفضائل التائهة وكل ما يجيء من هذا القبيل فهو التجريد المحض‏.‏

وأما ما قصد به التوسع خاصة فكقول الصمة بن عبد الله من شعراء الحماسة‏:‏ حننت إلى ريا ونفسك باعدت مزارك من ريا وشعباكما معا فما حسن أن تأتي الأمر طائعاً وتجزع أن داعي الصبابة أسمعا وقد ورد بعد هذين البيتين ما يدل إلى أن المراد بالتجريد فيهما التوسع لأنه قال‏:‏ وأذكر أيام الحمى ثم أنثني على كبدي من خشية أن تصدعا بنفسي تلك الأرض ما لأطيب الربا وما أحسن المصطاف والمتربعا فانتقل من الخطاب التجريدي إلى خطاب النفس ولو استمر على الحالة الأولى لما قضي عليه بالتوسع وإنما كان يقضى عليه بالتجريد البليغ الذي هو الطرف الآخر ويتأول له بأن غرضه من خطاب غيره أن ينفي عن نفسه سمعة الهوى ومعرة العشق لما في ذلك من الشهرة والغضاضة لكن قد زال هذا التأويل بانتقاله عن التجريد أولاً إلى خطاب النفس‏.‏

وإلى هذا الأسلوب ورد قول أبي الطيب المتنبي‏:‏ لا خيل عندك تهديها ولامال فليسعد النطق إن لم تسعد الحال وهذان البيتان من مطلع قصيدة يمدح بها فاتكاً الإخشيدي بمصر وكان وصله بصلة سنية من نفقة وكسوة قبل أن يمدحه ثم مدحه بعد ذلك بهذه القصيدة وهي من غرر شعره وقد بنى مطلعها على المعنى المشار إليه من ابتداء فاتك إياه بالصلة قبل المديح وليس في التجريد المذكور في هذين البيتين ما يدل على وصف النفس ولا على تزكيتها بالمديح كما ورد في الأبيات الرائية المتقدم ذكرها وإنما هو توسع لاغير‏.‏

وأما القسم الثاني‏:‏ وهو غير المحض فإنه خطاب لنفسك لا لغيرك ولئن كان بين النفس والبدن فرق إلا أنهما كأنهما شيء واحد لعلاقة أحدهما بالآخر‏.‏

وبين هذا القسم والذي قبله فرق ظاهر وذاك أولى بأن يسمى تجريداً لأن التجريد لائق به وهذا هو نصف تجريد لأنك لم تجرد لأنك لم تجرد به عن نفسك شيئاً وإنماخاطبت نفسك بنفسك كأنك فصلتها عنك وهي منك‏.‏

فمما جاء منه قول عمرو بن الإطنابة‏:‏ أقول لها وقد جشأت وجاشت رويدك تحمدي أوتستريحي وكذلك قول الآخر‏:‏ أقول للنفس تأساء وتعزية إحدى يدي أصابتني ولم ترد وليس في هذا ما يصلح أن يكون خطاباً لغيرك كالأول وإنما المخاطب هو المخاطب بعينه وليس ثم شيء خارج عنه‏.‏

وأما الذي ذكره أبو علي الفارسي رحمه الله فإنه قال‏:‏ إن العرب تعتقد أن في الإنسان معنى كامناً فيه كأنه حقيقته ومحصوله فيخرج ذلك المعنى إلى ألفاظها مجرداً من الإنسان كأنه غيره وهو هو بعينه نحو قولهم‏:‏ لئن لقيت فلاناً لتلقين به الأسد ولئن سألته لتسألن منه البحر وهو عينه الأسد والبحر لا أن هناك شيئاً منفصلاً عنه أو متميزاً منه‏.‏

ثم قال‏:‏ وعلى هذا النمط كون الإنسان يخاطب نفسه حتى كأنه يقاول غيره كما قال الأعشى‏:‏ وهل تطيق وداعاً أيها الرجل وهوالرجل نفسه لا غيره‏.‏

هذا خلاصة ما ذكره أبو علي رحمه الله‏.‏

والذي عندي فيه أنه أصاب في الثاني ولم يصب في الأول لأن الثاني هو التجريد ألا ترى أن الأعشى جرد الخطاب عن نفسه وهو يريدها وأما الأول وهو قوله ‏"‏ لئن لقيت فلاناً لتلقين به الأسد ولئن سألته لتسألن منه البحر ‏"‏ فإن هذا تشبيه مضمر الأداة إذ يحسن تقدير أداء التشبيه فيه وبيان ذلك أنك تقول‏:‏ لئن لقيت فلاناً لتلقين منه كالأسد ولئن سألته لتسألن منه كالبحر وليس هذا بتجريد لأن حقيقة التجريد غير موجودة فيه وإنما هو تشبيه مضمر الأداة ألا ترى أن المذكور هو كالأسد وهو كالبحر وليس ثم شيء مجرد عنه كما تقدم في الأبيات الشعرية‏.‏

ويبطل على أبي علي قوله أيضاً من وجه آخر وذاك أنه قال ‏"‏ إن العرب تعتقد أن في الإنسان معنى كامناً فيه كأنه حقيقته ومحصوله فخرج ذلك المعنى إلى ألفاظها مجرداً من الإنسان كأنه غيره وهو هو ‏"‏ كالمثال الذي مثله في تشبيهه بالأسد وتشبيهه بالبحر وهذا ينتقض بقولنا‏:‏ لئن رأيت الأسد لترين منه هضبة ولئن لقيته لتلقين منه الموت فإن الصورة التي أوردها في الإنسان وزعم أن العرب تعتقد أن ذلك معنى كامن فيه قد أوردنا مثلها في الأسد فتخصيصه ذلك بالإنسان باطل وكلا الصورتين ليس بتجريد وإنما هو تشبيه مضمر الأداة وقد سبق القول بأن التجريد هو أن تطلق على غيرك ولا يكون هو المراد وإنما المراد نفسك وهذا لا يوجد في هذا المثال المضمر الأداة بل المخاطب هو هو لا غيره فلا يطلق عليه إذاً اسم التجريد لأنه خارج عن حقيقته ومناف لموضوعه فإذا قال القائل لئن لقيته لتلقين به كالأسد ولئن سألته لتسألن منه كالبحر لم يجرد عن المقول عنه شيئاً وإنما شبهه تارة بالأسد في شجاعته وتارة بالبحر في سخائه‏.‏

وأما قوله‏:‏ ‏"‏ إن العرب تعتقد أن في الإنسان معنى كامناً فيه كأنه حقيقته ومحصوله ‏"‏ فأقول‏:‏ وغير العرب أيضاً تعتقد ذلك‏:‏ فإن عنى بالمعنى الكامن معنى الإنسانية الذي هو الاستعداد للعلوم والصنائع فما هذا من الشيء الغريب الخفي الذي علمته العرب خاصة وانفرد باستخراجه أبو علي رحمه الله وإن عني بالمعنى الكامن ما فيه من الأخلاق كالشجاعة والسخاء في المثال الذي ذكره حتى يشبه بالأسد تارة وبالبحر أخرى فليس الإنسان مختصاً بهذا المعنى الكامن دون غيره من الحيوانات بل الأسد فيه من معنى الشجاعة ما ليس في الإنسان ولهذا إذا بولغ في وصف الإنسان بالشجاعة شبه بالأسد وكذلك في بعض الحيوانات من السخاء ما ليس في الإنسان ومن أمثال‏:‏ أكرم من ديك لأنه إذا ظفر بحبة من الحنظة أخذها في منقاره وطاف بها على الدجاج حتى يضعها في منقار واحدة منهن فالأخلاق إذاً مشتركةٌ بين الإنسان وبين غيره من الحيوانات غير أن الإنسان يجتمع فيه ما تفرق في كثير منها‏.‏

وما أعلم ما أراد أبو علي رحمه الله بقوله ‏"‏ إن في الإنسان معنى كامناً فيه كأنه حقيقته ومحصوله ‏"‏ إلا أن يكون أحد هذين القسمين اللذين أشرت إليهما‏.‏

على أن القسم الواحد الذي هو خلق الشجاعة والسخاء وغيره من الأخلاق ليس عبارة عن حقيقة الإنسان إذ لا يقال في حده‏:‏ حيوان شجاع ولا سخي بل يقال‏:‏ حيوان ناطق فالنطق الذي هو الاستعداد للعلوم والصنائع هو حقيقة الإنسان فبطل إذاً قول أبي علي رحمه الله تعالى في تمثيله حقيقة الإنسان بالشجاعة والسخاء‏.‏

فالخطأ توجه في كلامه من وجهين‏:‏ أحدهما‏:‏ أنه جعل حقيقة الإنسان عبارةً عن خلقه والآخر‏:‏ أنه أدخل في التجريد ما ليس منه‏.‏

وهذا القدر كاف في هذا الموضع فليتأمل‏.‏

  النوع الرابع في الالتفات

وهذا النوع ما يليه خلاصة علم البيان التي حولها يدندن وإليها تستند البلاغة وعنها يعنعن وحقيقته مأخوذة من التفات الإنسان عن يمينه وشماله فهو يقبل بوجهه تارة كذا وتارة كذا وكذلك يكون هذا النوع من الكلام خاصة لأنه ينتقل فيه عن صيغة كالانتقال من خطاب حاضر إلى غائب أو من خطاب غائب إلى حاضر‏.‏

أو من فعل ماض إلى مستقبل أو من مستقبل إلى ماض أو غير ذلك مما يأتي ذكره مفصلا ويسمى أيضاً ‏"‏ شجاعة العربية ‏"‏ وإنما سمي بذلك لأن الشجاعة هي الإقدام وذاك أن الرجل الشجاع يركب ما لا يستطيعه غيره ويتورد ما لا يتورده سواه وكذلك هذا الالتفات في الكلام فإن اللغة العربية تختص به دون غيرها من اللغات‏.‏

وهو ينقسم إلى ثلاثة أقسام‏:‏ القسم الأول في الرجوع من الغيبة إلى الخطاب اعلم أن عامة المنتمين إلى هذا الفن إذا سئلوا عن الانتقال عن الغيبة إلى الخطاب وعن الخطاب إلى الغيبة قالوا‏:‏ كذلك كانت عادة العرب في أساليب كلامها وهذا القول هو عكاز العميان كما يقال ونحن إنما نسأل عن السبب الذي قصدت العرب ذلك من أجله‏.‏

وقال الزمخشري رحمه الله‏:‏ إن الرجوع من الغيبة إلى الخطاب إنما يستعمل للتفنن في الكلام والانتقال من أسلوب إلى أسلوب تطرية لنشاط السامع وإيقاظا للإصغاء إليه‏.‏

وليس الأمر كما ذكره لأن الانتقال في الكلام من أسلوب إلى أسلوب إذا لم يكن إلا تطرية لنشاط السامع وإيقاظا للإصغاء إليه فإن ذلك دليل على أن السامع يمل من أسلوب واحد فينتقل إلى غيره ليجد نشاطاً للاستماع وهذا قدح في الكلام لا وصف له لأنه لو كان حسنا لما مل ولو سلمنا إلى الزمخشري ما ذهب إليه لكان إنما يوجد ذلك في الكلام المطول ونحن نرى الأمر بخلاف ذلك لأنه قد ورد الانتقال من الغيبة إلى الخطاب ومن الخطاب إلى الغيبة في مواضع كثيرة من القرآن الكريم ويكون مجموع الجانبين مما يبلغ عشرة ألفاظ أو أقل من ذلك ومفهوم قول الزمخشري في الانتقال من أسلوب إلى أسلوب إنما يستعمل قصداً للمخالفة بين المنتقل عنه والمنتقل إليه لا قصداً لاستعمال الأحسن وعلى هذا فإذا وجدنا كلاما قد استعمل في جميعه الإيجاز ولم ينتقل عنه أو استعمل فيه جميعه الإطناب ولم ينتقل عنه وكان كلا الطرفين واقعا في موقعه قلنا هذا ليس بحسن إذ لم ينتقل فيه من أسلوب إلى أسلوب وهذا القول فيه ما فيه وما أعلم كيف ذهب على مثل الزمخشري مع معرفته بفن الفصاحة والبلاغة‏.‏

والذي عندي في ذلك أن الانتقال من الخطاب إلى الغيبة أو من الغيبة إلى الخطاب لا يكون إلا لفائدة اقتضته وتلك لفائدة أمر وراء الانتقال من أسلوب إلى أسلوب غير أنها لا تحد بحد ولا تضبط بضابط لكن يشار إلى مواضع منها ليقاس عليها غيرها فإنا قد رأينا الانتقال من الغيبة إلى الخطاب قد استعمل لتعظيم شأن المخاطب ثم رأينا ذلك بعينه وهو ضد الأول قد استعمل في الانتقال من الخطاب إلى الغيبة فعلمنا حينئذ أن الغرض الموجب لاستعمال هذا النوع من الكلام لا يجري على وتيرة واحدة وإنما هو مقصور على العناية بالمعنى المقصود وذلك المعنى يتشعب شعبا كثيرة لا تنحصر وإنما يؤتى بها على حسب الموضع الذي ترد فيه وسأوضح ذلك في ضرب من الأمثلة الآتي ذكرها‏.‏

فأما الرجوع من الغيبة إلى الخطاب فكقوله تعالى في سورة الفاتحة‏:‏ ‏"‏ الحمد لله رب العالمين‏.‏

الرحمن الرحيم ‏,‏ مالك يوم الدين‏.‏ إياك نعبد وإياك نستعين اهدنا الصراط المستقيم‏.‏ صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين ‏"‏ هذا رجوع من الغيبة إلى الخطاب وبما يختص الكلام من الفوائد قوله‏:‏ ‏"‏ إياك نعبد وإياك نستعين ‏"‏ بعد قوله ‏"‏ الحمد لله رب العالمين ‏"‏ فإنه إنما عدل فيه من الغيبة إلى الخطاب لأن الحمد دون العبادة ألا تراك تحمد نظيرك ولا تعبده فلما كانت الحال كذلك استعمل لفظ الحمد لتوسطه مع الغيبة في الخبر فقال‏:‏ ‏"‏ الحمد لله ‏"‏ ولم يقل ‏"‏ الحمد لك ‏"‏ ولما صار إلى العبادة التي هي أقصى الطاعات قال‏:‏ ‏"‏ إياك نعبد ‏"‏ فخاطب بالعبادة إصراحا بها وتقربا منه عز اسمه بالانتهاء إلى محدود منها وعلى نحو من ذلك جاء آخر السورة فقال‏:‏ ‏"‏ صراط الذين أنعمت عليهم ‏"‏ فأصرح الخطاب لما ذكر النعمة ثم قال‏:‏ ‏"‏ غير المغضوب عليهم ‏"‏ عطفاً على الأول لأن الأول موضع التقرب من الله بذكر نعمه فلما صار إلى ذكر الغضب جاء باللفظ منحرفا عن ذكر الغاضب فأسند النعمة إليه لفظا وزوى عنه لفظ الغضب تحننا ولطفا فانظر إلى هذا الموضع وتناسب هذه المعاني الشريفة التي الأقدام لا تكاد تطؤها والأفهام مع قربها صافحة عنها وهذه السورة قد انتقل في أولها من الغيبة إلى الخطاب لتعظيم شأن المخاطب ثم انتقل في آخرها من الخطاب إلى الغيبة لتلك العلة بعينها وهي تعظيم شأن المخاطب أيضا لأن مخاطبة الرب تبارك وتعالى بإسناد النعمة إليه تعظيم لخطابه وكذلك ترك مخاطبته بإسناد الغضب إليه تعظيم لخطابه فانبغى أن يكون صاحب هذا الفن من الفصاحة والبلاغة عالما بوضع أنواعه في مواضعها على اشتباهها‏.‏

ومن هذا الضرب قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وقالوا اتخذ الرحمن ولدا لقد جئتم شيئا إدا ‏"‏ وإنما قيل‏:‏ ‏"‏ لقد جئتم ‏"‏ وهو خطاب بعد قوله ‏"‏ وقالوا ‏"‏ وهو خطاب للغائب لفائدة حسنة وهي زيادة التسجيل عليهم بالجراءة على الله تعالى والتعرض لسخطه وتنبيه لهم على عظم ما قالوه كأنه يخاطب قوما حاضرين بين يديه منكرا عليهم وموبخا لهم‏.‏

ومما جاء من الالتفات مرارا على قصر متنه وتقارب طرفيه قوله تعالى أول سورة بني إسرائيل‏:‏ ‏"‏ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنريه من آياتنا إنه هو السميع البصير ‏"‏ فقال أولا ‏"‏ سبحان الذي أسرى ‏"‏ بلفظ الواحد ثم قال ‏"‏ الذي باركنا ‏"‏ بلفظ الجمع ثم قال‏:‏ ‏"‏ إنه هو السميع البصير ‏"‏ وهو خطاب غائب ولو جاء الكلام على مساق الأول لكان‏:‏ سبحان الذي أسرى بعبده ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بارك حوله ليريه من آياته إنه هو السميع البصير وهذا جميعه معطوفا على أسرى فلما خولف بين المعطوف والمعطوف عليه في الانتقال من صيغة إلى صيغة كان ذلك اتساعا وتفننا في أساليب الكلام ولمقصد آخر معنوي هو أعلى وأبلغ‏.‏

وسأذكر ما سنح لي فيه فأقول‏:‏ لما بدأ الكلام بسبحان ردفه بقوله الذي أسرى إذ لا يجوز أن يقال الذي أسرينا فلما جاء بلفظ الواحد والله تعالى أعظم العظماء وهو أولى بخطاب العظيم في نفسه الذي هو بلفظ الجمع استدرك الأول بالثاني فقال ‏"‏ باركنا ‏"‏ ثم قال ‏"‏ لنريه من آياتنا ‏"‏ فجاء بذلك على نسق ‏"‏ باركنا ‏"‏ ثم قال ‏"‏ إنه هو ‏"‏ عطفاً على أسرى وذلك موضع متوسط الصفة لأن السمع والبصر صفتان شاركه فيهما غيره وتلك حال متوسطة فخرج بهما عن خطاب العظيم في نفسه إلى خطاب نائب فانظر إلى هذه الالتفاتات المترادفة في هذه الآية الواحدة التي جاءت لمعان اختصت بها يعرفها من عرفها ويجهلها من يجهلها‏.‏

ومما ينخرط في هذا السلك الرجوع من خطاب الغيبة إلى خطاب النفس كقول تعالى‏:‏ ‏"‏ ثم استوى إلى السماء وهي دخان فقال لها وللأرض ائتيا طوعا أو كرها قالتا أتينا طائعين فقضاهن سبع سموات في يومين وأوحى في كل سماء أمرها وزينا السماء الدنيا بمصابيح وحفظا ذلك تقدير العزيز العليم ‏"‏ وهذا رجوع من الغيبة إلى خطاب النفس فإنه قال ‏"‏ وزينا ‏"‏ بعد قوله ‏"‏ ثم استوى ‏"‏ وقوله‏:‏ ‏"‏ فقضاهن ‏"‏ ‏"‏ وأوحى ‏"‏ والفائدة في ذلك أن طائفة من الناس غير المتشرعين يعتقدون أن النجوم ليست في سماء الدنيا وأنها ليست حفظا ولا رجوما فلما صار الكلام إلى ههنا عدل به عن خطاب الغائب إلى خطاب النفس لأنه مهم من مهمات الاعتقاد وفيه تكذيب للفرقة المكذبة المعتقدة بطلانه وفي خلاف هذا الرجوع من خطاب النفس إلى خطاب الغيبة‏.‏

ومما ينخرط في هذا السلك أيضاً الرجوع من خطاب النفس إلى خطاب الجماعة كقوله تعالى ‏"‏ وما لي لا أعبد الذي فطرني وإليه ترجعون ‏"‏ وإنما صرف الكلام عن خطاب نفسه إلى خطابهم لأنه أبرز الكلام لهم في معرض المناصحة وهو يريد مناصحتهم ليتلطف بهم ويداريهم لأن ذلك أدخل في إمحاض النصح حيث لا يريد لهم إلا ما يريد لنفسه وقد وضع قوله‏:‏ ‏"‏ وما لي لا أعبد الذي فطرني ‏"‏ مكان قوله‏:‏ وما لكم لا تعبدون الذي فطركم ألا ترى إلى قوله ‏"‏ وإليه ترجعون ‏"‏ ولولا أنه قصد ذلك لقال‏:‏ الذي فطرني وإليه أرجع وقد ساقه ذلك المساق إلى أن قال‏:‏ ‏"‏ إني آمنت بربكم فاسمعون ‏"‏ فانظر أيها المتأمل إلى هذه النكت الدقيقة التي تمر عليها في آيات القرآن الكريم وأنت تظن أنك فهمت فحواها واستنبطت رموزها‏.‏

وعلى هذا الأسلوب يجري الحكم في الرجوع من خطاب النفس إلى خطاب الواحد كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ حم والكتاب المبين إنا أنزلناه في ليلة مباركة إنك كنا منزلين‏.‏

فيها يفرق كل أمر حكيم أمرا من عندنا إنا كنا مرسلين‏.‏

رحمة من ربك إنه هو السميع العليم ‏"‏ والفائده ههنا في الرجوع من خطاب النفس إلى خطاب الواحد تخصيص النبي ‏)‏بالذكر والإشارة بأن إنزال الكتاب إنما هو إليه وإن لم يكن ذلك صريحا لكن مفهوم الكلام يدل عليه‏.‏

وإذا تأملت مطاوي القرآن الكريم وجدت فيه من هذا وأمثاله أشياء كثيرة وإنما اقتصرنا على هذه الأمثلة المختصرة ليقاس عليها ما يجري على أسلوبها‏.‏

وقد ورد في فصيح الشعر شيء من ذلك كقول أبي تمام‏:‏ فقد أكلوا منها الغوارب بالسرى وصارت لهم أشباحهم كالغوارب يصرف مسراها جذيل مشارق إذا آبه هم عذيق مغارب يرى بالكعاب الرود طلعة ثائر وبالعرمس الوجناء غرة آئب كأن بها ضغنا على كل جانب من الأرض أو شوقا إلى كل جانب إذا العيس لاقت بي أبا دلف فقد تقطع ما بيني وبين النوائب هنالك تلقى الجود من حيث قطعت تمائمه والمجد مرخى الذوائب ألا ترى أنه قال في الأول ‏"‏ يصرف مسراها ‏"‏ مخاطبة للغائب ثم قال بعد ذلك‏:‏ ‏"‏ إذا العيس لاقت بي ‏"‏ مخاطبا نفسه وهي هذا من الفائدة أنه لما صار إلى مشافهة للممدوح والتصريح باسمه خاطب عند ذلك نفسه مبشرا لها بالبعد عن المكروه والقرب من المحبوب ثم جاء بالبيت الذي يليه معدولا به عن خطاب نفسه إلى خطاب غيره وهو أيضاً خطاب لحاضر فقال ‏"‏ هنالك تلقى الجود ‏"‏ والفائدة بذلك أنه يخبر غيره بما شهده كأنه يصف له جود الممدوح وما لاقاه منه إشادة بذكره وتنويها باسمه وحملا لغيره على قصده وفي صفته جود الممدوح بتلك الصفة الغريبة البليغة وهي قوله ‏"‏ حيث قطعت تمائمه ‏"‏ ما يقتضي له الرجوع إلى خطاب الحاضر والمراد بذلك أن محل الممدوح هو مألف الجود ومنشؤه ووطنه وقد يراد به معنى آخر وهو أن هذا الجود قد أمن عليه الآفات العارضة لغيره من المن والمطل والاعتذار وغير ذلك إذ التمائم لا تقطع إلا عمن أمنت عليه المخاوف‏.‏

على هذا النهج ورد قول أبي الطيب المتنبي في قصيدة يمدح به ابن العميد في النوروز ومن عادة الفرس في ذلك اليوم حمل الهدايا إلى ملوكهم فقال في آخر القصيدة‏:‏ @ كثر الفكر كيف نهدي كما أه - - دت إلى ربها المليك عباده والذي عندنا من المال والخيل فمنه هباته وقياده فبعثنا بأربعين مهارا كل مهر يدانه إنشاده عدد عشته يرى الجسم فيه أربا لا يراه فيما يزاده فارتبطها فإن قلباً نماها مربط تسبق الجياد جياده وهذا من إحسان أبي الطيب المعروف وهو رجوع عن خطاب الغائب إلى الحاضر واحتج أبو الطيب عن تخصيص أبياته بالأربعين دون غيرها من العدد بحجة غريبة وهي أنه جعلها كعدد السنين التي يرى الإنسان فيها من القوة والشباب وقضاء الأوطار ما لا يراه في الزيادة عليها فاعتذر بألطف اعتذار في أنه لم يزد القصيدة على هذه العدة وهذا حسن غريب‏.‏

وأما الرجوع من الخطاب إلى الغيبة كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ هو الذي يسيركم في البر والبحر حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين ‏"‏ فإنه إنما صرف الكلام ههنا من الخطاب إلى الغيبة لفائدة وهي أنه ذكر لغيرهم حالهم ليعجبهم منها كالمخبر لهم ويستدعي منهم الإنكار عليهم ولو قال‏:‏ حتى إذا كنتم في الفلك وجرين بكم بريح طيبة فرحتم بها وساق الخطاب معهم إلى آخر الآية لذهبت تلك الفائدة التي أنتجها خطاب الغيبة وليس ذلك بخاف عن نقدة الكلام‏.‏

ومما ينخرط في هذا السلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون‏.‏

وتقطعوا أمرهم بينهم كل إلينا راجعون ‏"‏ الأصل في تقطعوا تقطعتم عطفاً على الأول إلا أنه صرف الكلام من الخطاب إلى الغيبة على طريقة الالتفات كأنه ينعي عليهم ما أفسدوه إلى قوم آخرين ويقبح عندهم ما فعلوه ويقول‏:‏ ألا ترون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين الله تعالى فجعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا وذلك تمثيل لاختلافهم فيه وتباينهم ثم توعدهم بعد ذلك بأن هؤلاء الفرق المختلفة إليه يرجعون فهو مجازيهم على ما فعلوا‏.‏

ومما يجري هذا المجرى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ يأيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً الذي له ملك السموات والأرض لا إله إلا هو يحي ويميت فآمنوا بالله ورسوله النبي الأمي الذي يؤمن بالله وكلماته واتبعوه لعلكم تهتدون ‏"‏ فإنه إنما قال‏:‏ ‏"‏ فآمنوا بالله ورسوله ‏"‏ ولم يقل فآمنوا بالله وبي عطفاً على قوله إني رسول الله إليكم لكي تجري عليه الصفات التي أجريت عليه وليعلم أن الذي وجب الإيمان به والاتباع له هو هذا الشخص الموصوف بأنه النبي الأمي الذي يؤمن بالله وبكلماته كائنا من كان أنا أو غيري إظهارا للنصفة وبعدا من التعصب لنفسه فقدر أولاً في صدر الآية إني رسول الله إلى الناس ثم أخرج كلامه من الخطاب إلى معرض الغيبة لغرضين الأول منهما إجراء تلك الصفات عليه والثاني الخروج من تهمة التعصب لنفسه‏.‏

القسم الثاني في الرجوع عن الفعل المستقبل إلى فعل الأمر وعن الفعل الماضي إلى فعل الأمر وهذا القسم كالذي قبله في أنه ليس الانتقال فيه من صيغة إلى صيغة طلبا للتوسع في أساليب الكلام فقط بل لأمر وراء ذلك وإنما يقصد إليه تعظيما لحال من أجري عليه الفعل المستقبل وتفخيما لأمره وبالضد من ذلك فيمن أجري عليه فعل الأمر‏.‏

فمما جاء منه قوله تعالى ‏"‏ يا هود ما جئتنا ببينة وما نحن بتاركي آلهتنا عن قولك وما نحن لك بمؤمنين إن نقول إلا اعتراك بعض آلهتنا بسوء قال إني أشهد الله واشهدوا أني بريء مما تشركون ‏"‏ فإنه إنما قال‏:‏ ‏"‏ أشهد الله واشهدوا ‏"‏ ولم يقل وأشهدكم ليكون موازنا له وبمعناه لأن إشهاده الله على البراءة من الشرك صحيح ثابت وأما إشهادهم فما هو إلا تهاون بهم ودلالة على قلة المبالاة بأمرهم ولذلك عدل به لفظ الأول لاختلاف ما بينهما وجيء به على لفظ الأمر كما يقول الرجل لمن يبس الثرى بينه وبينه‏:‏ اشهد علي أني أحبك تهكما به واستهانة بحاله‏.‏

وكذلك يرجع عن الفعل الماضي إلى فعل الأمر إلا أنه ليس كالأول بل إنما يفعل ذلك توكيدا لما أجري عليه فعل الأمر لمكان العناية بتحقيقه كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل أمر ربي بالقسط وأقيموا وجوهكم عند كل مسجد وادعوه مخلصين له الدين ‏"‏ وكان تقدير الكلام أمر ربي بالقسط وبإقامة وجوهكم عند كل مسجد فعدل عن ذلك إلى فعل الأمر للعناية بتوكيده في نفوسهم فإن الصلاة من أوكد فرائض الله على عباده ثم أتبعها بالإخلاص الذي هو عمل القلب إذ عمل الجوارح لا يصح إلا بإخلاص النية ولهذا قال النبي ‏)‏‏"‏ الأعمال بالنيات ‏"‏ واعلم أيها المتوشح لمعرفة علم البيان أن العدول عن صيغة من الألفاظ إلى صيغة أخرى لا يكون إلا لنوع خصوصية اقتضت ذلك وهو لا يتوخاه في كلامه إلا العارف برموز الفصاحة والبلاغة الذي اطلع على أسرارهما وفتش عن دفائنهما ولا تجد ذلك في كل كلام فإنه من القسم الثالث‏:‏ في الإخبار عن الفعل الماضي بالمستقبل وعن المستقبل بالماضي‏.‏

فالأول الإخبار بالفعل المستقبل عن الماضي‏:‏ اعلم أن الفعل المستقبل إذا أتي به في حالة الإخبار عن وجود الفعل كان ذلك أبلغ من الإخبار بالفعل الماضي وذاك لأن الفعل المستقبل يوضح الحال التي يقع فيها ويستحضر تلك الصورة حتى كأن السامع يشاهدها وليس كذلك الفعل الماضي وربما أدخل في هذا الموضع ما ليس منه جعلا بمكانه فإنه ليس كل فعل مستقبل يعطف على ماض بجار هذا المجرى‏.‏

وسأبين ذلك فأقول‏:‏ عطف المستقبل على الماضي ينقسم إلى ضربين‏:‏ أحدهما بلاغي وهو إخبار عن ماض بمستقبل وهو الذي أنا بصدد ذكره في كتابي هذا الذي هو موضوع لتفصيل ضروب الفصاحة والبلاغة والآخر غير بلاغي وليس إخبار بمستقبل عن ماض وإنما هو مستقبل دل على معنى مستقبل غير ماض ويراد به أه ذلك الفعل مستمر الوجود لم يمض فالضرب الأول كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا فسقناه إلى بلد ميت فأحيينا به الأرض بعد موتها كذلك النشور ‏"‏ فإنه إنما قيل ‏"‏ فتثير ‏"‏ مستقبلا وما قبله وما بعده ماض لذلك المعنى الذي أشرنا إليه وهو حكاية الحبل التي يقع فيها إثارة الريح السحاب واستحضار تلك الصورة البديعة الدالة على القدرة الباهرة وهكذا يفعل بكل فعل فيه نوع تمييز وخصوصية وعلى هذا الأسلوب ما ورد من حديث الزبير بن العوام رضي الله عنه في غزوة بدر‏:‏ فإنه قال‏:‏ لقيت عبيدة بن سعيد بن العاص وهو على فرس وعليه لأمة كاملة لا يرى منه إلا عيناه وهو يقول‏:‏ أنا أبو ذات الكئوس وفي يدي عنزة فأطعن بها في عينه فوقع وأطأ برجلي على خده حتى خرجت العنزة متعقفة فقوله ‏"‏ فأطعن بها في عينه وأطأ برجلي ‏"‏ معدول به عن لفظ الماضي إلى المستقبل ليمثل للسامع الصورة التي فعل فيها ما فعل من الإقدام والجراءة على قتل ذلك الفارس المستلئم ألا ترى أنه قال أولا‏:‏ لقيت عبيدة بلفظ الماضي ثم قال بعد ذلك‏:‏ فأطعن بها في عينه ولو عطف كلامه على أوله لقال‏:‏ فطعنت بها في عينه‏.‏

وعلى هذا ورد قول تأبط شرا‏:‏ بأبي قد لقيت الغول تهوي بسهب كالصحيفة صحصحان فأضربها بلا دهش فخرت صريعا لليدين وللجران فإنه قصد أن يصور لقومه الحال التي تشجع فيها على ضرب الغول كأنه يبصرهم إياها مشاهدة للتعجب من جراءته على ذلك الهول ولو قال فضربتها عطفاً على الأول لزالت هذه الفائدة المذكورة‏.‏

فإن قيل إن الفعل الماضي أيضاً يتخيل منه السامع ما يتخيله من المستقبل‏.‏

قلت في الجواب‏:‏ إن التخيل يقع في الفعلين معا لكنه في أحدهما - وهو المستقبل - أوكد وأشد تخيلا لأنه يستحضر صورة الفعل حتى كأن السامع ينظر إلى فاعلها في حال وجود الفعل منه ألا ترى أنه لما قال تأبط شرا ‏"‏ فأضربها ‏"‏ تخيل السامع أنه مباشر للفعل وأنه قائم بإزاء الغول وقد رفع سيفه ليضربها وهذا لا يوجد في الفعل الماضي لأنه لا يتخيل السامع منه إلا فعلا قد مضى من غير إحضار للصورة في حالة سماع الكلام الدال عليه وهذا لا خلاف فيه وهكذا يجري الحكم في جميع الأبيات المذكورة وفي الأثر عن الزبير رضي الله عنه وفي الأبيات الشعرية‏.‏

وعليه ورد قوله تعالى أيضاً وهو ‏"‏ ذلك ومن يعظم حرمات الله فهو خير له عند ربه وأحلت لكم بهيمة الأنعام إلا ما يتلى عليكم فاجتنبوا الرجس من القول واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق ‏"‏ فقال أولا‏:‏ ‏"‏ خر من السماء ‏"‏ بلفظ الماضي ثم عطف عليه المستقبل الذي هو ‏"‏ فتخطفه ‏"‏ و ‏"‏ تهوي ‏"‏ وإنما عدل في ذلك إلى المستقبل لاستحضار صورة خطف الطير إياه وهوي الريح به والفائدة في ذلك ما أشرت إليه فيما تقدم وكثيرا ما يراعى أمثال هذا في القرآن‏.‏

وأما الضرب الثاني الذي هو مستقبل فكقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله ‏"‏ فإنه إنما عطف المستقبل على الماضي لأن كفرهم كان ووجد ولم يستجدوا بعده كفرا ثانيا وصدهم متجدد على الأيام لم يمض كونه وإنما هو مستمر يستأنف في كل حين وكذلك ورد قوله تعالى ‏"‏ ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فتصبح الأرض مخضرة إن الله لطيف خبير ‏"‏ ألا ترى كيف عدل عن لفظ الماضي ههنا إلى المستقبل‏:‏ فقال‏:‏ ‏"‏ فتصبح الأرض مخضرة ‏"‏ ولم يقل فأصبحت عطفاً على ما أنزل وذلك لإفادة بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان فإنزال الماء مضى وجوده واخضرار الأرض باق لم يمض وهذا كما تقول‏:‏ أنعم علي فلان فأروح وأغدوا شاكرا له ولو قلت‏:‏ فرحت وغدوت شاكرا له لم يقع الموقع لأنه يدل على ماض قد كان وانقضى وهذا موضع حسن ينبغي أن يتأمل‏.‏

وإما الإخبار بالفعل الماضي عن المستقبل فهو عكس ما تقدم ذكره وفائدته أن الفعل الماضي إذا أخبر به عن الفعل المستقبل الذي لم يوجد بعد كان ذلك أبلغ وأوكد في تحقيق الفعل وإيجاده لأن الفعل الماضي يعطي من المعنى أنه قد كان ووجد وإنما يفعل ذلك إذا كان الفعل المستقبل من الأشياء العظيمة التي يستعظم وجودها‏.‏

والفرق بينه وبين الإخبار بالفعل المستقبل عن الماضي أن الغرض بذاك تبيين هيئة الفعل واستحضار صورته ليكون السامع كأنه يشاهدها والغرض بهذا هو الدلالة على إيجاد الفعل الذي لم يوجد‏.‏

فمن أمثلة الإخبار بالفعل الماضي عن المستقبل قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ويوم ينفخ في الصور ففزع من في السموات ومن في الأرض ‏"‏ فإنه إنما قال ‏"‏ ففزع ‏"‏ بلفظ الماضي بعد قوله ‏"‏ ينفخ ‏"‏ وهو مستقبل للإشعار بتحقيق الفزع وأنه كائن لا محالة لأن الفعل الماضي يدل على وجود الفعل وكونه مقطوعا به‏.‏

وكذلك جاء قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ويوم نسير الجبال وترى الأرض بارزة وحشرناهم فلم نغادر منهم أحدا ‏"‏ وإنما قيل ‏"‏ وحشرناهم ‏"‏ ماضيا بعد ‏"‏ نسير ‏"‏ و ‏"‏ ترى ‏"‏ وهما مستقبلان للدلالة على أن حشرهم قبل التسيير والبروز ليشاهدوا تلك الأحوال كأنه قال‏:‏ وحشرناهم قبل ذلك لأن الحشر هو المهم لأن من الناس من ينكره كالفلاسفة وغيرهم ومن أجل ذلك ذكر بلفظ الماضي‏.‏

ومما يجري هذا المجرى الإخبار باسم المفعول عن الفعل المستقبل وإنما يفعل ذلك لتضمنه معنى الفعل الماضي وقد سبق الكلام عليه‏.‏

فمن ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن في ذلك لآية لمن خاف عذاب الآخرة ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود ‏"‏ فإنه إنما آثر اسم المفعول الذي هو ‏"‏ مجموع ‏"‏ على الفعل المستقبل الذي هو يجمع لما فيه من الدلالة على ثبات معنى الجمع لليوم ‏,‏ وأنه الموصوف بهذه الصفة وإن شئت فوازن بين قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ يوم يجمعكم ليوم الجمع ‏"‏ فإنك تعثر على صحة ما قلت‏.‏

في توكيد الضميرين إن قيل في هذا الموضع‏:‏ إن الضمائر مذكورة في كتب النحو فأي حاجة إلى ذكرها ههنا ولم نعلم أن النحاة لا يذكرون ما ذكرته‏.‏

قلت‏:‏ إن هذا يختص بفصاحة وبلاغة وأولئك لا يتعرضون إليه وإنما يذكرون عدد الضمائر وأن المنفصل منها كذا و المتصل كذا ولا يتجاوزون ذلك وأما أنا فإني في هذا النوع أمرا خارجا عن الأمر النحوي وأعني بقولي ‏"‏ توكيد الضميرين ‏"‏ أن يؤكد المتصل بالمنفصل كقولك إنك أنت أو يؤكد المنفصل بمنفصل مثله كقولك أنت أنت أو يؤكد المتصل بمتصل مثله كقولك إنك إنك لعالم أو إنك إنك لجواد‏.‏

وإنما يؤتى بمثل هذه الأقوال في معرض المبالغة وهو من أسرار علم البيان‏.‏

ولنقدم في ذلك قولا يحصره ويجمع أطرافه فنقول‏:‏ إذا كان المعنى المقصود معلوما ثابتا في النفوس فأنت بالخيار في توكيد أحد الضميرين فيه بالآخر وإذا كان غير معلوم وهو مما يشك فيه فالأولى حينئذ أن يؤكد أحد الضميرين بالآخر في الدلالة عليه لتقرره وتثبته‏.‏

فما جاء من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قالوا يا موسى إما أن تلقي وإما أن نكون نحن الملقين ‏"‏ فإن أراد السحرة الإلقاء قبل موسى لم تكن معلومة عنده لأنهم لم يصرحوا بما في أنفسهم من ذلك لكنهم لما عدلوا عن مقابلة خطابهم موسى بمثله إلى توكيد ما هو لهم بالضميرين اللذين هما نكون ونحن دل ذلك على أنهم يريدون التقدم عليه والإلقاء قبله لأن من شأن مقابلة خطابهم موسى بمثله أن كانوا قالوا‏:‏ إما أن تلقي وإما أن نلقي لتكون الجملتان متقابلتين فحيث قالوا عن أنفسهم‏:‏ ‏"‏ وإما أن نكون نحن الملقين ‏"‏ استدل بهذا القول على رغبتهم في الإلقاء قبله‏.‏

وأما توكيد المتصل بالمتصل فكقوله تعالى في سورة الكهف‏:‏ ‏"‏ فانطلقا حتى إذا لقيا غلاما فقتله قال أقتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا‏.‏

قال ألم أقل لك إنك لن تستطيع معي صبرا ‏"‏ وهذا بخلاف قصة السفينة فإنه قال فيها‏:‏ ‏"‏ ألم أقل إنك لن تستطيع معي صبرا ‏"‏ والفرق بين الصورتين أنه أكد الضمير في الثانية دون الأولى فقال في الأولى‏:‏ ‏"‏ ألم أقل لك ‏"‏ وقال في الثانية‏:‏ ‏"‏ ألم أقل لك إنك ‏"‏ وإنما جيء بذلك للزيادة في مكافحة العتاب على رفض الوصية مرة على مرة والوسم بعدم الصبر وهذا كما لو أتى إنسان ما نهيته عنه فلمته وعنفته ثم أتى ذلك مرة ثانية أليس أنك تزيد في لومه وتعنيفه وكذلك فعل ههنا فإنه قيل في الملامة أولا ‏"‏ أم أقل إنك ‏"‏ ثم قيل ثانيا‏:‏ ‏"‏ ألم أقل لك إنك ‏"‏ وهذا موضع يدق عن العثور عليه ببادرة النظر ما لم يعط التأمل فيه وأما توكيد المتصل بالمنفصل فنحو قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فأوجس في نفسه خيفة موسى قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى ‏"‏ فتوكيد الضميرين ههنا في قوله‏:‏ ‏"‏ إنك أنت الأعلى ‏"‏ أنفى للخوف من قلب موسى و

أثبت في نفسه للغلبة والقهر ولو قال لا تخف إنك الأعلى أو فأنت الأعلى لم يكن له من التقرير

والإثبات لنفي الخوف ما لقوله‏:‏ ‏"‏ إنك أنت الأعلى‏.‏

‏"‏

وفي هذه الكلمات الثلاث وهي قوله ‏"‏ إنك أنت الأعلى ‏"‏ ست فوائد‏:‏

الأولى ‏"‏ إن المشددة التي من شأنها الإثبات لما يأتي بعدها كقولك زيد قائم ثم تقول إن زيدا

قائم ففي قولك إن زيدا قائم من الإثبات لقيام زيد ما ليس في قولك زيد قائم‏.‏

الثانية‏:‏ تكرير الضمير في قوله‏:‏ ‏"‏ إنك أنت ‏"‏ ولو اقتصر على أحد الضميرين لما كان بهذه المكانة في

التقرير لغلبة موسى والإثبات لقهره‏.‏

الثالثة‏:‏ لام التعريف في قوله الأعلى ‏"‏ ولم يقل أعلى ولا عال لأنه لو قال ذلك لكان قد نكره

وكان صالحا لكل واحد من جنسه كقولك‏:‏ رجل فإنه يصلح أن يقع على كل واحد من

الرجال وإذا قلت الرجل فقد خصصته من بين الرجال بالتعريف وجعلته علما فيهم وكذلك

قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إنك أنت الأعلى ‏"‏ أي دون غيرك ‏,‏

الرابعة‏:‏ لفظ أفعل الذي من شأنه التفضيل ولم يقل العالي‏.‏

الخامسة‏:‏ إثبات الغلبة له من العلو لأن الغرض من قوله ‏"‏ الأعلى ‏"‏ أي الأغلب إلا أن في الأعلى زيادة وهي الغلبة من عال‏.‏

السادسة‏:‏ الاستئناف وهو قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ لا تخف إنك أنت الأعلى ‏"‏ ولم يقل لأنك أنت الأعلى

لأنه لم يجعل علة انتفاء الخوف عنه كونه عاليا وإنما نفى الخوف عنه أولاً بقوله ‏"‏ لا تخف ‏"‏ ثم استأنف الكلام فقال‏:‏ ‏"‏ إنك أنت الأعلى ‏"‏ فكان ذلك أبلغ في إيقان موسى عليه السلام بالغلبة

والاستعلاء وأثبت لذلك في نفسه‏.‏

وربما وقع لبعض الأغمار أن يعترض على ما ذكرناه في توكيد أحد الضميرين بالآخر فيقول‏:‏ لو كان توكيدهما أبلغ من الاقتصار على أحدهما لورد ذلك عند ذكر الله تعالى نفسه حيث هو

أولى بما هو أبلغ وأوكد من القول وقد رأينا في القرآن الكريم مواضع تختص بذكر الله تعالى وقد ورد فيها أحد الضميرين دون الآخر كقوله عز اسمه‏:‏ ‏"‏ قل اللهم مالك الملك تؤتي الملك من تشاء وتنزع الملك ممن تشاء وتعز من تشاء وتذل من تشاء بيدك الخير إنك على كل شيء قدير ‏"‏ ولم يقل إنك نت على كل شيء قدير فما الموجب لذلك إن كان توكيد أحد الضميرين بالآخر أبلغ من الاقتصار على أحدهما الجواب عن ذلك أنا نقول‏:‏ قد قدمنا القول في أول هذا النوع أنه إذا كان المعنى المقصود معلوما ثابتا فصاحب الكلام مخير في توكيد أحد الضميرين بالآخر فإن أكد فقد أتى بفضل بيان وإن لم يؤكد فلأن ذلك المعنى ثابت لا يفتقر في تقريره إلى زيادة تأكيد كهذه الآية المشار إليها وهي

قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل اللهم مالك الملك ‏"‏ فإن العلم بأن الله على كل شيء قدير لا يفتقر إلى تأكيد

يقرره وقد ورد ما يجري مجرى هذا الآية مؤكداً كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم

أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله قال سبحانك ما يكون لي أن أقول ما ليس لي

بحق إن كنت قلته فقد علمته تعلم ما في نفسي ولا أعلم ما في نفسك إنك أنت علام الغيوب ‏"‏

فوكد هذه الآية ولم يوكد في الآية الأخرى وقد عرفتك الطريق في ذلك وأما ما إذا كان المعنى

المقصود غير معلوم وهو مما يشك فيه فالأولى أن يؤكد بالضميرين في الدلالة عليه كقوله

تعالى‏:‏ ‏"‏ قلنا لا تخف إنك أنت الأعلى ‏"‏ فإن موسى لم يكن متيقنا أنه غالب للسحرة فلذلك وكد

خطابه بالضميرين ليكون أبلغ في تقرير ذلك في نفسه‏.‏

وأما توكيد المفصل بمنفصل مثله فكقول أبي تمام‏:‏

لا أنت أنت ولا الديار ديار خف الهوى وتولت الأوطار

فقوله أنت أنت ولا الديار ديار من المليح النادر في هذا الموضع إلى آخر بيت الشعر الملك

الهمام فقوله أنت أنت من توكيد الضميرين المشار إليهما وفائدته المبالغة في مدحه ولو مدحه

بما شاء لما سد مسد قوله ‏"‏ أنت أنت ‏"‏ أي أنك المشار إليه بالفضل دون غيرك وأما قوله ‏"‏ وأنت

منهم ‏"‏ فخارج عن هذا الباب وهو كلام مستأنف لا يتعلق بتوكيد الضميرين كأنه قال‏:‏ أنت

الموصوف بكذا وكذا وأنت من هذا القبيل يريد بذلك مدح قبيله به‏.‏

وهذا البيت لم أمثل به اختيارا له واستجادة وإنما مثلت به ليعلم مكان توكيد المنفصل

بالمنفصل وإلا فالبيت ليس من المرضي لأن سبكه سبك عار من الحسن وفيه تقديم وتأخير

وقرأت في كتاب الأغاني لأبي الفرج أن عمرو بن ربيعة قال لزياد بن الهبولة‏:‏ يا خير الفتيان اردد

علي ما أخذته من إبلي فردها عليه وفيها فحلها فنازعه الفحل إلى الإبل فصرعه عمرو فقال

له زياد‏:‏ لقد أعطيت قليلا وسمت جليلا وجررت على نفسك ويلا طويلا فقوله ‏"‏ لكنتم أنتم

أنتم ‏"‏ أي أنتم الأشداء أو الشجعان أو ذوو النجدة والبأس أو ما جرى هذا المجرى إلا أن في

أنتم الثانية تخصيصا لهم بهذه الصفة دون غيرهم كأنه قال‏:‏ لكنتم أنتم الشجعان لما بلغ هذه

الكلمة أعني ‏"‏ أنتم ‏"‏ الثانية وهذا موضع من علم البيان تتكاثر محاسنه فاعرفه‏.‏

  النوع السادس في عطف المظهر على ضميره

وهذا إنما يعمد إليه لفائدة وهي تعظيم شأن الأمر الذي أظهر عنده الاسم المضمر أولا ومثال

ذلك قول القائل‏:‏ ولما تلاقينا وبنو تميم أقبلوا نحونا يركضون فرأينا منهم أسودا ثكلا تسابق الأسنة

إلى الورود ولا ترتد على أعقابها إذا ارتدت أمثالها من الأسود وتناجد بنو تميم علينا بحملة فلذنا بالفرار واستبقنا إلى تولية الأدبار فإنه إنما قيل ‏"‏ وتناجد بنو تميم ‏"‏ مصرحا باسمهم ولم يقل وتناجدوا كما قيل ‏"‏ أقبلوا ‏"‏ للدلالة على التعجب من إقدامهم عند الحملة وثباتهم عند الصدمة لا سيما وقد أردف ذلك بقوله ‏"‏ لذنا بالفرار واستبقنا إلى تولية الأدبار ‏"‏ كأنه قال‏:‏ وتناجد أولئك الفرسان المشاهير والكماة المناكير وحملوا علينا حملة واحدة فولينا مدبرين منهزمين‏.‏

ومما جاء من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ أو لم يروا كيف يبدئ الله الخلق ثم يعيده إن ذلك على الله يسير قل سيروا في الأرض فانظروا كيف بدأ الخلق ثم الله ينشئ النشأة الآخرة ‏"‏ ألا ترى كيف صرح باسمه في قوله‏:‏ ‏"‏ ثم الله ينشيء النشأة الآخرة ‏"‏ مع إيقاعه المبتدأ في قوله‏:‏ ‏"‏ كيف يبديء الله الخلق ‏"‏

وقد كان القياس أن يقول كيف يبديء الله الخلق ثم ينشيء النشأة الآخرة والفائدة في ذلك أنه لما

كانت الإعادة عندهم من الأمور العظيمة وكان صدر الكلام واقعا معهم في الإبداء وقررهم أن

ذلك من الله احتج عليهم بأن الإعادة إنشاء مثل الإبداء وإذا كان الله الذي لا يعجزه شيء هو

الذي لا يعجزه الإبداء فوجب أن لا تعجزه الإعادة فللدلالة والتنبيه على عظم هذا الأمر الذي

وعلى هذا ورد قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت

عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين‏.‏ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين

وأنزل جنودا لم تروها وعذب الذين كفروا وذلك جزاء الكافرين ‏"‏ ألا ترى أنه قال أولا ‏"‏ ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم ‏"‏ فذكر مضمرا تقدم الكلام فيه ثم عطف المظهر الذي هو له وهو

قوله‏:‏ ‏"‏ ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين ‏"‏ وكان العطف لو أضمر كما أضمر الأول لقيل ثم أنزل الله سكينته عليكم وأنزل جنودا لم تروها وفائدة الإظهار ههنا للمعطوف بعد إضماره

أولاً التنويه بذكر رسول الله ‏)‏وذكر المؤمنين أو لأن الأمر عظيم وهو الانتصار بعد الفرار فأي

الأمرين قدر كان لإظهار المعطوف مناسبا وهكذا يكون عطف المظهر على ضميره فإنه

يستند إلى فائدة يهم ذكرها فإن لم يكن هناك مثل هذه الفائدة وإلا فلا يحسن الإظهار بعد

الإضمار‏.‏

وكذلك جاء قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإذا تتلى عليهم آياتنا بينات قالوا ما هذا إلا رجل يريد أن يصدكم

عما كان يعبد آباؤكم وقالوا ما هذا إلا إفك مفترى وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم إن هذا

إلا سحر مبين ‏"‏ فإنه إنما قال‏:‏ ‏"‏ وقال الذين كفروا ‏"‏ ولم يقل وقالوا كالذي قبله للدلالة على صدور ذلك عن إنكار عظيم وغضب شديد وتعجب من كفرهم بليغ لا سيما وقد انضاف إليه

قوله‏:‏ ‏"‏ وقال الذين كفروا للحق لما جاءهم ‏"‏ وما فيه من الإشارة إلى القائلين والمقول فيه وما في ذلك من المبادهة كأنه قال‏:‏ وقال أولئك الكفرة المتمردون بجزائتهم على الله ومكابرتهم لمثل ذلك الحق المبين قبل أن يتدبروه إن هذا إلا سحر مبين، وعلى نحو من ذلك ورد قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ص والقرآن ذي الذكر بل الذين كفروا في عزة وشقاق كم

أهلكنا من قبلهم من قرن فنادوا ولات حين مناص وعجبوا أن جاءهم منذر منهم وقال الكافرون

هذا ساحر كذاب ‏"‏ وكان القياس أن يقال‏:‏ وقالوا هذا ساحر كذاب عطفاً على ‏"‏ عجبوا ‏"‏ وإنما

أتى باسم الكافرين مظهرا بعد إضماره للإشعار بتعظيم ما اجترءوا عليه من القول في أمر النبي صلى الله عليه وسلم أو لأن هذا القول كان أهم عندهم وأرسخ في نفوسهم فصرح باسم قائله دلالة على ما كان في أنفسهم منه‏.‏

  النوع السابع في التفسير بعد الإبهام

اعلم أن هذا النوع لا يعمد إلى استعماله إلا لضرب من المبالغة فإذا جيء به في كلام فإنما يفعل ذلك لتفخيم أمر مبهم وإعظامه لأنه هو الذي يطرق السمع أولاً فيذهب بالسامع كل مذهب

كقول تعالى‏:‏ ‏"‏ وقضينا إليه ذلك الأمر أن دابر هؤلاء مقطوع مصبحين ‏"‏ ففسر ذلك الأمر بقوله‏:‏ ‏"‏ أن دابر هؤلاء مقطوع ‏"‏ وفي إبهامه أولاً وتفسيره بعد ذلك تفخيم للأمر وتعظيم لشأنه فإنه لو قال

وقضينا إليه أن دابر هؤلاء مقطوع لما كان بهذه المكانة من الفخامة فإن الإبهام أولاً يقع السامع

في حيرة وتفكر واستعظام لما قرع سمعه وتشوف إلى معرفته والاطلاع على كنهه‏.‏

وعلى نحو هذا جاء قوله تعالى ‏"‏ قال قد أوتيت سؤلك يا موسى ولقد مننا عليك مرة أخرى

إذ أوحينا إلى أمك ما يوحى أن أقذفيه في التابوت فاقذفيه في اليم ‏"‏ ففسر ‏"‏ ما يوحى ‏"‏ بقوله ‏"‏ أن اقذفيه ‏"‏ وهذا كالأول في إيهامه أولاً وتفسيره ثانيا‏.‏

ومثال هذا ورد قوله تعالى في سورة أم الكتاب‏:‏ ‏"‏ اهدنا الصراط المستقيم صراط الذين أنعمت

عليهم ‏"‏ فإنه إنما قال ذلك ولم يقل اهدنا صراط الذين أنعمت عليهم لما في الأول من التنبيه

والإشعار بأن الصراط المستقيم هو صراط المؤمنين فدل عليه بأبلغ وجه كما تقول هل أدلك

على فلان الأكرم الأفضل لأنك تثبت ذكره مجملا ومفصلا فجعلته علما في الكرم والفضل

كأنك قلت من أراد رجلا جامعا للخصلتين جميعاً فعليه بفلان‏.‏

فإن قيل ما الفرق بين عطف المظهر على ضميره وبين التفسير بعد الإيهام فإن المضمر كالمبهم‏.‏

فالجواب عن ذلك أني أقول‏:‏ إن كان سؤالك عن فائدتهما فإنهما في الفائدة سواء وذلك أنهما

إنما يرادان لتعظيم الحال والإعلام بفخامة شأنهما وإن كان سؤالك عن الفرق بينهما في العبارة

فإني أقول‏:‏ المضمر يأتي بعد مظهر تقدم ذكره أولا ثم يعطف المظهر على ضميره أي على

ضمير نفسه كالمثال الذي ضربناه في بني تميم وأما التفسير بعد الإبهام فإن المبهم يقدم أولا وهو أن يذكر شيء يقع عليه محتملات كثيرة ثم يفسر بإيقاعه على واحد منها وليس كذلك عطف المظهر على ضميره‏.‏

ومما جاء في التفسير بعد الإبهام قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وقال الذي آمن يا قوم اتبعون أهدكم سبيل الرشاد يا قوم إنما هذه الحياة الدنيا متاع وإن الآخرة هي دار القرار من عمل سيئة فلا يجزى إلا مثلها ومن عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة يرزقون فيها بغير حساب ‏"‏ ألا ترى كيف قال‏:‏ ‏"‏ أهدكم سبيل الرشاد ‏"‏ فأبهم سبيل الرشاد ولم يبين أي سبيل هو ثم فسر ذلك

فافتتح كلامه بذم الدنيا وتصغير شأنها ثم ثنى ذلك بتعظيم الآخرة والاطلاع على حقيقتها ثم

ثلث بذكر الأعمال سيئها وحسنها وعاقبة كل منهما ليثبط عما يتلف وينشط لما يزلف كأنه

قال‏:‏ سبيل الرشاد هو الإعراض عن الدنيا والرغبة في الآخرة والامتناع من الأعمال السيئة

خوف المقابلة عليها والمسارعة إلى الأعمال الصالحة رجاء المجازاة عليها‏.‏

وكذلك ورد قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وإذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت وإسماعيل ‏"‏ فإنه إنما قال ‏"‏ القواعد

من البيت ‏"‏ ولم يقل قواعد البيت لما في إبهام القواعد أولاً وتبيينها بعد ذلك من تفخيم حال المبين ما ليس في الإضافة‏.‏

ومما يجري هذا المجرى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ وقال فرعون يا هامان ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السموات فأطلع إلى إله موسى ‏"‏ فإنه أراد تفخيم ما أمل فرعون من بلوغه أسباب السموات أبهمها أولاً ثم فسرها ثانيا ولأنه لما كان بلوغها أمرا عجيباً أراد أن يورده على نفس متشوفة إليه ليعطيه السامع حقه من التعجب فأبهمه ليشوف إليه نفس هامان ثم أوضحه بعد ذلك‏.‏

وعلى هذا الأسلوب ورد قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ قل إنما أعظكم بواحدة أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ما بصاحبكم من جنة إن هو إلا نذير لكم بين يدي عذاب شديد ‏"‏ فإنه قال

أولا‏:‏ ‏"‏ أعظكم بواحدة ‏"‏ فأبهم الواحدة ثم فسرها بقوله‏:‏ ‏"‏ أن تقوموا لله مثنى وفرادى ثم تتفكروا ‏"‏

وهذا في القرآن الكريم كثير الاستعمال‏.‏

وأما الإبهام من غير تفسير فكثير شائع في القرآن الكريم أيضاً كقول تعالى‏:‏‏:‏ ‏"‏ وفعلت فعلتك التي فعلت ‏"‏ وكذلك ورد قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ‏"‏ أي للطريقة أو الحالة أو الملة التي هي أقومها وأسدها وأي ذلك قدرت لم تجد له مع الإفصاح ذوق البلاغة التي تجده مع وهذا كقول القائل لو رأيت عليا بين الصفين فإنه لو وصفه مهما وصف من نجدة وشجاعة وثبات وإقدام وأطال القول في ذلك لم يكن بمثابة ما يترامى إليه الوهم مع الإبهام وهذا للعارف برموز هذه الصناعة وأسرارها‏.‏

وعلى هذا الأسلوب ورد قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فغشيهم من اليم ما غشيهم ‏"‏ وأبلغ من ذلك قوله تعالى‏:‏ ‏"‏

والمؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى ‏"‏ فإنه قال في تلك الآية‏:‏ ‏"‏ فغشيهم من اليم ما غشيهم ‏"‏ فذكر

اليم وهو البحر فصار الذي غشيهم إنما هو منه خاصة وقال في هذا الآية ‏"‏ فغشاها ما غشى ‏"‏

فأبهم الأمر الذي غشاها به وجعله عاما وذلك أبلغ لأن السامع يذهب وهمه فيه كل مذهب‏.‏

وأما ما جاء من ذلك شعرا فكقول البحتري‏:‏

بعيد مقيل الصدر لا يدرك التي يحاولها منه الأريب المخادع

فقوله ‏"‏ التي يحاولها ‏"‏ من الإبهام المقدم ذكره في الآية‏.‏

ومما ينتظم بذلك قول الشاعر في أبيات الحماسة‏:‏

صبا ما صبا حتى علا الشيب رأسه فلما علاه قال للباطل أبعد

فقوله ‏"‏ صبا ما صبا ‏"‏ من الإبهام الذي لو قدرت ما قدرت تفسيره لم تجد له من فضيلة البيان ما تجد له مع الإبهام‏.‏

ولقد نهزت مع الغواة بدلوهم وأسمت سرح اللحظ حين أساموا

وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه فإذا عصارة كل ذاك أثام

فقوله ‏"‏ وبلغت ما بلغ امرؤ بشبابه ‏"‏ من هذا النمط المشار إليه وهو من المليح النادر

ومما يجري على هذا النهج قول الآخر في وصف الخمر‏:‏

مضى بها ما مضى من عقل شاربها وفي الزجاجة باق يطلب الباقي

والكلام على هذا البيت كالكلام على البيت الذي قبله‏.‏

ومثله ورد قول بعض المتأخرين‏:‏ فؤاد فيه ما فيه‏.‏

وعلى هذا ورد قولي في فصل من تقليد لبعض الوزراء فقلت‏:‏ وأنت مؤهل لواحدة متخلق لها

غرر الجياد وتناديها العلياء بلسان الإحماد وتفخر بها سمر الأقلام على سمر الصعاد فابسط

يدك لأخذ كتابها واسمع لطيب ذكرها بعد سعيك في طلابها واعلم أن الخطاب إليها كثير لكنها

صدت بك عن خطابها ولقد مضى عليها زمن وهي تفور حتى استقادها تأنيسك ولم تسبق

الأقدار باسمك إلا لتكون سليمانها وهي بلقيسك‏.‏

وهذا الوزير كان اسمه سليمان فسقت المعنى إليه فجاء كما تراه من الحسن واللطافة‏.‏

أما قولي ‏"‏ وأنت مؤهل لواحدة ‏"‏ فإنه من الإبهام من غير تفسير وذلك بخلاف ما ورد في الآية

ومما ينتظم في هذا السلك الاستثناء العددي وهو ضرب من المبالغة لطيف المأخذ وفائدته

أن أول ما يطرق سمع المخاطب ذكر العقد من العدد فيكثر موقع ذلك عنده وهو شبيه بما

ذكره من الإبهام أولاً ثم التفسير بعده ثانيا وذلك كقول القائل‏:‏ أعطيته مائة إلا عشرة أو أعطيته

ألفا إلا مائة فإن ذلك أبلغ من أن لو قال‏:‏ أعطيته تسعين أو تسعمائة‏.‏

وعليه ورد قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولقد أرسلنا نوحا إلى قومه فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاما ‏"‏ ولم

يقل تسعمائة وخمسين عاما لفائدة حسنة وهي ذكر ما ابتلى به نوح من أمته وما كابده من

طول المصابرة ليكون ذلك تسلية لرسول الله ‏)‏فيما يلقاه من أمته وتثبيتا له فإن ذكر رأس

العدد الذي هو منتهى العقود وأعظمها أوقع وأوصل إلى الغرض من استطالة السامع مدة صبره

وما لاقاه من قومه‏.‏

  النوع الثامن في استعمال العام في النفي والخاص في الإثبات

اعلم أنه إذا كان الشيئان أحدهما خاصا والآخر عاما فإن استعمال العام في النفي أبلغ من

استعماله في حالة الإثبات وكذلك استعمال الخاص في حالة الإثبات أبلغ من استعماله في حالة

النفي‏.‏

ومثال ذلك الإنسانية والحيوانية فإن إثبات الإنسانية يوجب إثبات الحيوانية ولا يوجب نفيها نفي

الحيوانية وكذلك نفي الحيوانية يوجب نفي الإنسانية ولا يوجب إثباتها إثبات الإنسانية

ومما ينتظم بذلك الأسماء المفردة الواقعة على الجنس التي يكون بينها وبين واحدها تاء التأنيث

فإنه متى أريد النفي كان استعمال واحدها أبلغ ومتى أريد الإثبات كان استعمالها أبلغ

وكذلك يتصل بهذا النوع الصفتان الواردتان على شيء واحد فإنه إذا لزم من وجود إحداهما

وجود الأخرى اكتفي بها في الذكر ولم يحتج إلى ذكر الأخرى لأنه يجيء ضمنا وتبعا أو يبدأ بها في الذكر أولاً ثم تجيء الأخرى بعدها وأما الصفات المتعددة فإنه ينبغي أن يبدأ في الذكر بالأدنى مرتبة ثم بعدها بما هو أعلى منها إلى أن ينتهي إلى آخرها هذا في مقام المدح فإن كان في مقام الذك عكست القضية‏.‏

فالأول - وهو الخاص والعام - نحو قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ مثلهم كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم ‏"‏ ولم يقل ذهب بضوئهم موازنا لقوله ‏"‏ فلما أضاءت ‏"‏ لأن ذكر النور في حالة النفي أبلغ من حيث إن الضوء فيه الدلالة على النور وزيادة فلو قال ذهب الله بضوئهم

لكان المعنى يعطي ذهاب تلك الزيادة وبقاء ما يسمى نورا لأن الإضاءة هي فرط الإنارة قال

الله تعالى‏:‏ ‏"‏ هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورا ‏"‏ فكل ضوء نور وليس كل نور ضوءا

فالغرض من قوله تعالى ‏"‏ ذهب الله بنورهم ‏"‏ إنما هو إزالة النور عنهم أصلا فهو إذا أزاله فقد

أوال الضوء وكذلك أيضاً قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ذهب الله بنورهم ‏"‏ ولم يقل أذهب نورهم لأن كل من

ذهب بشيء فقد أذهبه وليس كل من أذهب شيئا فقد ذهب به لأن الذهاب بالشيء هو

استصحاب له ومضي به وفي ذلك نوع احتجار بالمذهوب به وإمساك له عن الرجوع إلى حالته والعود إلى مكانه وليس كذلك الإذهاب للشيء لزوال معنى الاحتجار عنه‏.‏

ومما يحمل على ذلك الأوصاف الخاصة إذا وقعت على شيئين وكان يلزم من وصف أحدهما

الآخر ولا يلزم عكس ذلك ومثاله قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ سارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها

السموات والأرض ‏"‏ فإنه إنما خص العرض بالذكر دون الطول للمعنى الذي أشرنا إليه والمراد

بذلك أنه إذا كان هذا عرضها فكيف يكون طولها

وهذا في حالة الإثبات ولو أريد حالة النفي كان له أسلوب غير ما ذكرناه وهو أنه كان يخص

به الطول دون العرض وأما الأسماء المفردة الواقعة على الجنس فنحو قوله تعالى في قصة نوح عليه السلام‏:‏ ‏"‏ قال الملأ من قومه إنا لنراك في ضلال مبين قال يا قوم ليس بي ضلالة ولكني رسول من رب العالمين ‏"‏ فإنه إنما قال‏:‏ ‏"‏ ليس بي ضلالة ‏"‏ ولم يقل ليس بي ضلال كما قالوا لأن نفي الضلالة أبلغ من نفي الضلال عنه كما لو قيل‏:‏ ألك تمر فقلت في الجواب ما لي تمرة وذلك أنفى للتمر ولو قلت ‏"‏ ما لي تمرة ‏"‏ لما

كان يؤدي من المعنى ما أداه القول الأول‏:‏

وفي هذا الموضع دقة تحتاج إلى فضل تمام فينبغي لصاحب هذه الصناعة مراعاته والعناية به‏.‏

فإن قيل‏:‏ لا فرق بين الضلالة والضلال وكلاهما مصدر قولنا ضل يضل ضلالا وضل يضل

ضلالة كما يقال‏:‏ لذ يلذ لذاذا ولذاذة‏.‏

فالجواب عن ذلك أن الضلالة تكون مصدرا كما قلت وتكون عبارة عن المرة الواحدة تقول

ضل يضل ضلالة أي مرة واحدة كما تقول‏:‏ ضرب يضرب ضربة وقام وأكل يأكل أكلة والمراد بالضلالة في هذه الآية إنما هو عبارة عن المرة الواحدة من الضلال فقد نفي ما فوقها من المرتين والمرار الكثيرة‏.‏

وأما الصفتان الواردتان على شيء واحد فكقول الأشتر النخعي‏:‏

خلفت وفري وانحرفت عن العلى ولقيت أضيافي بوجه عبوس

إن لم أشن على ابن حرب غارة لم تخل يوما من نهاب نفوس

حمي الحديد عليهمو فكأنه لمعان برق أو شعاع شموس

ألا ترى أنه رقى في التشبيه من الأدنى إلى الأعلى فقال‏:‏ ‏"‏ لمعان برق أو شعاع شموس ‏"‏ لأن لمعان البرق دون شعاع الشموس

ومما ورد من ذلك في القرآن الكريم قوله تعالى‏:‏‏:‏ ‏"‏ ما لهذا الكتاب لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها ‏"‏ فإن وجود المؤاخذة على الصغيرة يلزم منه وجود المؤاخذة على الكبيرة وعلى القياس

المشار إليه أولاً فينبغي أن يكون لا يغادر كبيرة ولا صغيرة لأنه إذا لم يغادر صغيرة فمن الأول ألا

يغادر كبيرة وأما إذا لم يغادر كبيرة فإنه يجوز أن يغادر صغيرة لأنه إذا لم يعف عن الصغيرة

فيقضي القياس أنه لا يعفو عن الكبيرة وإذا لم يعف عن الكبيرة فيجوز أن يعفو عن الصغيرة

غير أن القرآن الكريم أحق أن يتبع وأجدر بأن يقاس عليه لا على غيره والذي ورد فيه من هذه

الآية ناقض لما تقدم ذكره‏.‏

وكذلك ورد قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ فلا تقل لهما أف ولا تنهرهما ‏"‏ لأن التأفيف أدنى درجة وقد تقدم

قولي في أول هذا النوع أنه إذا جاءت صفتان يلزم من وجود إحداهما وجود الأخرى أن يكتفي

بذكرها دون الأخرى لأن الأخرى تجيء ضمنا وتبعا وأن يبدأ بها في الذكر ثم تجيء الأخرى

بعدها وعلى هذا فيقال أولاً فلا تنهرهما ولا تقل لهما أف لكن إذا لم يقل لهما أف امتنع أن

ينهرهما وقد كان هذا هو المذهب عندي حتى وجدت كتاب الله تعالى قد ورد بخلافه

وحينئذ عدت عما كنت أراه وأقول به‏.‏

وأما الصفات المتعددة الواردة على شيء واحد فكقول أبي عبادة البحتري في وصف نحول

الركاب‏:‏

يترقرقن كالسراب قد خضن غمارا من السراب الجاري

كالقسي المعطفات بل الأسهم مبرية بل الأوتار

ألا ترى أنه رقى في تشبيه نحولها من الأدنى إلى الأعلى فشبهها أولاً بالقسي ثم بالأسهم

المبرية وتلك أبلغ في النحول ثم بالأوتار وهي أبلغ في النحول من الأسهم وكذلك ينبغي أن

يكون الاستعمال في مثل هذا الباب‏.‏

وقد أغفل كثير من الشعراء ذلك فمن جملتهم أبو الطيب المتنبي في قوله‏:‏

يا بدر يا بحر يا غمامة يا ليت الشرى يا حمام يا رجل

وينبغي أن يبدأ فيه بالأدنى فالأدنى فإنه إذا فعل ذلك كان كالمرتفع من محل إلى محل أعلى منه

وإذا خالفه كان كالمنخفض من محل إلى محل أدنى منه فأما قوله يا بدر فإنه اسم ممدوح

والابتداء به أولى ثم بعده فيجب أن يقول‏:‏ يا رجل يا ليث يا غمامة يا بحر يا حمام لأن

الليث أعظم من الرجل والبحر أعظم من الغمامة والحمام أعظم من البحر وهذا مقام مدح

فيجب أن يرقى فيه من منزلة إلى منزلة حتى ينتهي إلى المنزلة العليا آخرا ولو كان مقام ذم

لعكس القضية‏.‏

وعلى مثله ورد قول أبي تمام يفتخر

سما بن أوس في الفخار وحاتم وزيد القنا والأثرمان ورافع

نجوم طوالع جبال فوارع غيوث هوامع سيول دوافع

فإن السيول دون الغيوث والجبال دون النجوم ولو قدم ما أخر لما اختل النظم بأن قال‏:‏

سيول دوافع غيوث هوامع جبال فوارع نجوم طوالع

وهذا عندي أشد ملامة من المتنبي لأن المتنبي لا يمكنه تقديم ألفاظ بيته وتأخيرها وأبو تمام

متمكن من ذلك وما أعلم كيف ذهب عليه هذا الموضع مع معرفته بالمعاني‏.‏